كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والله سبحانه يقرر أن هذه الفئة من الناس موجودة في أهل المدينة وفي الأعراب المحيطين بالمدينة. ويطمئن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، من كيد هذه الفئة الخفية الماكرة الماهرة؛ كما ينذر هؤلاء الماكرين المهرة في النفاق بأنه سبحانه لن يدعهم، فسيعذبهم عذابًا مضاعفًا في الدنيا والآخرة:
{لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم}.
والعذاب مرتين في الدنيا، الأقرب في تأويله أنه عذاب القلق النازل بهم من توقع انكشاف أمرهم في المجتمع المسلم؛ وعذاب الموت والملائكة تسألهم أرواحهم وتضرب وجوههم وأدبارهم. أو هو عذاب الحسرات التي تصيبهم بانتصار المسلمين وغلبتهم؛ وعذاب الخوف من انكشاف نفاقهم وتعرضهم للجهاد الغليظ.. والله أعلم بما يريد..
وبين المستويين المتقابلين، مستويان بين بين.. أولهما:
{وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون...}.
وأمر الله لرسوله بإجراء معين مع هذه الطائفة دليل على أنها كانت معينة بأشخاصها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر.
وقد روي أن الآيات نزلت في جماعة خاصة معينة فعلًا، ممن تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك، ثم أحسوا وطأة الذنب، فاعترفوا بذنوبهم، ورجوا التوبة. فكان منهم التخلف وهو العمل السيء. وكان منهم الندم والتوبة وهو العمل الصالح.
قال أبو جعفر بن جرير الطبري: حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ قال: أخبرنا عبيد ابن سلمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا}. نزلت في أبي لبابة وأصحابه، تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، وكان قريبًا من المدينة، ندموا على تخلفهم عن رسول الله، وقالوا: نكون في الظلال والأطعمة والنساء. ونبي الله في الجهاد واللأواء! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله صلى الله عليه وسلم يطلقنا ويعذرنا! وأوثقوا أنفسهم، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم بالسواري. فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، فمر في المسجد، وكان طريقه، فأبصرهم! فسأل عنهم، فقيل له: أبو لبابة وأصحابه، تخلفوا عنك، يا نبي الله، فصنعوا بأنفسهم ما ترى، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم! فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين! فأنزل الله: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} إلى {عسى الله أن يتوب عليهم} و{عسى} من الله واجب.
فأطلقهم نبي الله وعذرهم.
ووردت روايات متعددة أخرى منها: أنها في أبي لبابة وحده لما وقع في غزوة بني قريظة من تنبيههم لما يراد بهم، وأنه الذبح، بالإشارة إلى عنقه! ولكن هذا مستبعد فأين هذه الآيات مما وقع في بني قريظة! كذلك ورد أنها في الأعراب.. وقد عقب ابن جرير على هذه الروايات كلها بقوله:
وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخفلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم الجهاد معه، والخروج لغزو الروم، حين شخص إلى تبوك، وأن الذين نزل ذلك فيهم جماعة، أحدهم أبو لبابة.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في ذلك، لأن الله جل ثناؤه قال: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم}. فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم، ولم يكن المعترف بذنبه، الموثق نفسه بالسارية في حصار قريظة، غير أبي لبابة وحده. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تبارك وتعالى قد وصف في قوله: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} بالاعتراف بذنوبهم جماعة، علم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك ليست بالواحد، فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذ لم تكن إلا لجماعة. وكان لا جماعة فعلت ذلك- فيما ينقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل- إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك، صح ما قلنا في ذلك. وقلنا: كان منهم أبو لبابة لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك.
ولما ذكر الله سبحانه صفة هذه الجماعة من الناس المتخلفين المعتذرين التائبين عقب عليها بقوله: {عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم}.
وكما قال ابن جرير: وعسى من الله واجب.. فهو رجاء من يملك إجابة الرجاء سبحانه! والاعتراف بالذنب على هذا النحو، والشعور بوطأته، دليل حياة القلب وحساسيته، ومن ثم فالتوبة مرجوة القبول، والمغفرة مرتقبة من الغفور الرحيم.. وقد قبل الله توبتهم وغفر لهم..
ثم قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم}.
ولقد كانت تلك الحساسية التي بعثت الندم والتوبة في تلك القلوب، جديرة بالطمأنينة، حقيقة بالعطف الذي يسكب فيها الأمل، ويفتح لها أبوب الرجاء.
وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقود حركة، ويربي أمة، وينشئ نظامًا، قد رأى الأخذ بالحزم في أمرهم حتى يأتيه أمر من ربه في شأنهم..
قال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وصاحبيه، انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: خذ من أموالنا فتصدق بها عنا وصل علينا.. يقولون: استغفر لنا.. وطهرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أخذ منها شيئًا حتى أومر» فأنزل الله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم}. يقول: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوا. فلما نزلت الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم جزءًا من أموالهم، فتصدق به عنهم.
وهكذا منَّ الله عليهم لما علمه سبحانه من حسن سريرتهم، وصدق توبتهم، فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بعض أموالهم يتصدق بها عنهم، وأن يصلي عليهم- أي يدعو لهم، فالأصل في الصلاة الدعاء- ذلك أن أخذ الصدقة منهم يرد إليهم شهورهم بعضويتهم الكاملة في الجماعة المسلمة، فهم يشاركون في واجباتها، وينهضون بأعبائها، وهم لم ينبذوا منها ولم ينبتوا عنها؛ وفي تطوعهم بهذه الصدقات تطهير لهم وتزكية، وفي دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم طمأنينة وسكن.
{والله سميع عليم}.
يسمع الدعاء، ويعلم ما في القلوب. ويقضي بما يسمعه ويعلمه قضاء السميع العليم. وهو وحده الذي يقضي في شأن العباد، فيقبل منهم توبتهم ويأخذ منهم صدقاتهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينفذ ما يأمره به ربه، ولا ينشئ شيئًا من هذا من عنده.. وتقريرًا لهذه الحقيقة يقول تعالى في الآية التالية: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم}.
وهو استفهام تقريري يفيد: فليعلموا أن الله هو يقبل التوبة؛ والله هو يأخذ الصدقة، والله هو يتوب ويرحم عباده.. وليس شيء من هذا لأحد غيره سبحانه.. وأن نبي الله حين أبى أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزة معه؛ وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق الله عنهم حين أذن له في ذلك، إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه صلى الله عليه وسلم وأن ذلك إلى الله تعالى ذكره دون محمد.
وأن محمدًا إنما يفعل ما يفعل من ترك وإطلاق وأخذ صدقة وغير ذلك من أفعاله بأمر الله.
كما يقول ابن جرير: وفي النهاية يتوجه الحديث إلى المتخلفين التائبين:
{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}.
ذلك أن المنهج الإسلامي منهج عقيدة وعمل يصدق العقيدة. فمحك الصدق في توبتهم إذن هو العمل الظاهر، يراه الله ورسوله والمؤمنون. فأما في الآخرة فمردهم إلا عالم الغيب والشهادة الذي يعلم فعل الجوارح وكوامن الصدور.
إن الندم والتوبة ليسا نهاية المطاف. ولكنه العمل الذي يعقب الندم والتوبة. فيصدق أو يكذب تلك المشاعر النفسية ويعمقها أو يكتسحها بعد أن تكون!
إن الإسلام منهج حياة واقعية، لا تكفي فيه المشاعر والنوايا، ما لم تتحول إلى حركة واقعية. وللنية الطيبة مكانها؛ ولكنها هي بذاتها ليست مناط الحكم والجزاء. إنما هي تحسب مع العمل، فتحدد قيمة العمل. وهذا معنى الحديث: «إنما الأعمال بالنيات». الأعمال.. لا مجرد النيات!
والفريق الأخير هو الذي لم يبت في أمره، وقد وكل أمره إلى ربه: {وآخرون مُرجَون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم}.
وهؤلاء هم القسم الأخير من المتخلفين عن غزوة تبوك- غير المنافقين والمعتذرين والمخطئين التائبين- وهذا القسم لم يكن حتى نزول هذه الآية قد بت في أمره بشيء.
وكان أمرهم موكولًا إلى الله، لم يعلموه ولم يعلمه الناس بعد.. وقد روي أن هذه الآية نزلت في الثلاثة الذين خلفوا- أي أجل إعلان توبتهم والقضاء في أمرهم- وهم مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال ابن أمية، الذين قعدوا عن غزوة تبوك كسلًا وميلًا إلى الدعة واسترواحًا للظلال في حر الهاجرة! ثم كان لهم شأن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي تفصيله في موضعه من السورة في الدرس التالي.
روى ابن جرير بإسناده- عن ابن عباس- قال: لما نزلت هذه الآية.. يعني قوله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}. أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموالهم.. يعني أموال أبي لبابة وصاحبيه.. فتصدق بها عنهم، وبقي الثلاثة الذين خالفوا أبا لبابة، ولم يوثقوا ولم يذكروا بشيء، ولم ينزل عذرهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وهم الذين قال الله: {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم}. فجعل الناس يقولون. هلكوا! إذ لم ينزل لهم عذر. وجعل آخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم! فصاروا مرجئين لأمر الله، حتى نزلت: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} الذين خرجوا معه إلى الشام..
{من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم}
ثم قال: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} يعني المرجئين لأمر الله- نزلت عليهم التوبة فعموا بها، فقال: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم} إلى قوله: {إن الله هو التواب الرحيم} وكذلك روى- بإسناده- عن عكرمة وعن مجاهد، وعن الضحاك وعن قتادة. عن ابن إسحاق. فهذه الرواية أرجح والله أعلم.
ولما كان أمرهم مرجأ، فإننا نحب أن نرجئ الحديث فيه حتى يجيء في موضعه. إن شاء الله تعالى.
{والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدًا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تَقطع قلوبهم والله عليم حكيم}.
وقصة مسجد الضرار قصة بارزة في غزوة تبوك، لذلك أفرد المنافقون الذين قاموا بها من بين سائر المنافقين، وخصص لهم حديث مستقل بعد انتهاء الاستعراض العام لطوائف الناس في المجتمع المسلم حينذاك.